تدبّر التلاوة


بعد أن آمن البعض وما كاد أن يؤمن بضرورة التدبّر في القرآن الكريم ، قالوا كيف يمكن لعامّة الناس ، أي غير العلماء العالمين بعلوم القرآن و بما يحتاجه من أدوات علمية راقية .. كيف لهم أن يتدبّروا .. بل لماذا يحق لهم أن يتدبّروا ، أفلا يعدّ ذلك تطفلاً على كتاب الله المجيد ؟ أليس ذلك من اختصاص أولئك العلماء الربانيين؟؟لم يع أولئك أن التدبّر هو منظومة تشمل كافة بني البشر بما يحملون من قوى عقلية أودعها الله تعالى فيهم ، لكي يعقلوا الأشياء و ينساق تفكيرهم نحو دلالاتها وآثاراها وبواطنها التي تخفى عن النظرة العابرة للأشياء ، وعندما نقول أن التدبّر هو منهج في فهم آيات الله عز وجل يتّبعه العلماء في تفسيرهم ، لا يعني ذلك أننا نقصره عليهم ، ولكن التدبّر منظومة نسبية ، يختلف تعامل العلماء معه عن التالي لكتاب الله ، لأن القرآن يعطي بقدر ما يعطى من جهد.تدبّر التلاوة هو أن يمعن القارئ نظره في الآيات الكريمة ويتفكّر فيها ، و ينظر إلى ما يكون في نهاياتها من العواقب ، لتتشبّع نفسه بالآيات ويستغرق عقله في المفاهيم ، و يهتدي سلوكه ببصائر الوحي المقدّس.قال تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) <محمد : 24>. فالقلب المقفل هو الذي يقرأ بلا تدبّر.وقال عز وجل : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) <صـ : 29>. والتذكرة لا تأتي إلا من خلال التدبّر.فتدبّر التلاوة هو وعي المضمون من أجل الإنفتاح على آفاق الكتاب الكريم ، وإلإ كيف يمكن التصديق بعظمة الآيات ، وكيف يمكن التأثر الحقيقي بمرادات الباري عز شأنه .. وكما يقول الإمام علي (عليه السلام) : (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر).ولنا في العبرة القرآنية خير مثال ـ وهو هدي من هدى التدبّر ، ومثال عليه ـ حيث يقول عز وجل في سورة المؤمنون : (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ . لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ. قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ . مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ . أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ) <المؤمنون 64 ـ 68>.تخبرنا الآيات أنه قد حلّ العذاب على عامّة الناس في المجتمع ، لأن الآيات كانت تتلى عليهم ، ولكنهم لم يدّبروا القول لكي يلجوا في بحر الحقائق التي تنقذهم من العذاب وتبصرهم النور ، أليس في ذلك عبرة لنا في تلاوتنا للقرآن.