سلسلة دروس في الوقف والابتداء -3-


تصانيف وتآليف المسلمين لعلم الوقف والابتداءمما تقدم اتضح لنا مدى أهمية الوقف والابتداء عند صاحب الرسالة (ص) وعند الصحابة والتابعين والعلماء لما يترتب عليه من إيضاح المعاني القرآنية للمستمع ولا يحصل ذلك إلاّ إذا كان القارئ على علم واسع ومعرفة تامّة بالوقوف. فكان الصحابة والتابعين يتناقلون مسائل هذا العلم مشافهة إلى أن جاء عصر التدوين فبدأ القرّاء والعلماء الغيارى على كتاب الله بالتأليف والتصنيف فيه وأول من ألّف في علم الوقف والابتداء هو شيبة بن نصاح المدني الكوفي (ت: 130هـ).قال ابن الجزري: وهو أول من ألَّف في الوقوف. [غاية النهاية لابن الجزري (ت: 833هـ) 1/330، عنيَ بنشره ج. برجستراسر، الطبعة الثالثة دار الكتب العلمية بيروت 104هـ 1982] وممّا يلفت الانتباه أن كلَّ من ألّف في هذا الفن كانوا من القرّاء والنحويين وقلّ أن نجد إماماً في القراءة أو اللغة إلاّ وله مشاركة في هذا العلم. [مقدمة تحقيق كتاب الداني المكتفي في الوقف والابتداء للدكتور المرعشلي ص 49]إنَّ الذين كتبوا حول الوقف والابتداء في القرآن الكريم سلكوا مسالك مختلفة فمنهم من صنّف كتاباً مستقلاً حول هذا الفنّ بلغ عدد هذه المصنفات منذ بدء التأليف حتى يومنا هذا حوالي 78 مصنفاً أكثرها مفقود وبعضها مخطوط في مخازن المكتبات الشهيرة كمخزن التيمورية في دار الكتب المصرية والمكتبة الأزهرية بمصر ومكتبة الظاهرية بسوريّة و... ومنها المطبوعة. [مقدمة تحقيق كتاب الداني المكتفي في الوقف والابتداء للدكتور يوسف المرعشلي ص 7- 60؛ الكشف عن أحكام الوقف والوصل في العربية للدكتور محمد سالم محيسن ص 25- 28 ط. دار الجيل بيروت، الطبعة الأولي سنة 1412هـ - 1992م]ومن العلماء من ضمَّن كتابه في القراءات الموضوع مسهباً كما فعل السخاوي (ت: 643هـ) في كتابه «جمال القرّاء» الجزء الثاني تحت عنوان «علم الاهتداء في معرفة الوقف والابتداء» في 164 صفحة، وابن الجزري (ت: 833 هـ) في منظومته طيبة النشر وكتابه النشر في القراءات الجزء الأول في 19 صفحة هذا من القدماء ومن المتأخرين الشيخ محمد مكي نصر في كتابه «نهاية القول المفيد في علم التجويد» بحث موضوع الوقف والابتداء في الباب السادس منه في تسعة فصول وتتمّة في 44 صفحة ومنهم من ضمّنوا كتبهم موضوع الوقف والابتداء باختصار من القدامى علي النوري الصفاقسي في كتابه «غيث النفع» ومن المعاصرين القمحاوي في كتابه « البرهان في تجويد القرآن » والمرحوم أستاذنا السيد داود العطار في كتابه «التجويد وآداب التلاوة».والمجموعة الرابعة هم علماء علوم القرآن فقد أفردوا لهذا الفن باباً واعتبروه من العلوم المتعلقة بالقرآن منهم الزركشي في كتابه « البرهان في علوم القرآن » جاء به في النوع الثالث والعشرين والحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت: 851 هـ) في كتابه « الإتقان في علوم القرآن » في النوع الثامن والعشرين ومن المعاصرين إبراهيم الأبياري في موسوعته القرآنية تحت رقم 34.وأقدم ما وصلنا من الكتب المستقلة حول الوقف والابتداء هما كتابا ابن الأنباري محمد بن القاسم بن بشار (ت: 328هـ) وابن النحاس أحمد بن محمد بن اسماعيل (ت: 338هـ) الموسومان بـ « إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ » [هو من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، تحقيق الدكتور محي الدين عبد الرحمن رمضان، عام 1390هـ - 1971م في مجلدين] و « القطع والائتناف». [طبع طبعتين: طبعة في بغداد بتحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر ضمن منشورات وزارة الأوقاف العراقية، سلسلة إحياء التراث الإسلامي / 38 ط 1 1398هـ - 1978م مطبعة العاني وهو مجلد كبير، وطبعة أخري في المملكة العربية السعودية في مجلدين بتحقيق الدكتور عبد الرحمن إبراهيم المطرودي عام 1413هـ - 1992م]كتاب إيضاح الوقف والابتداء يعتبر من أشهر الكتب في هذا الفن، قال أبو عمرو عثمان الداني: سمعت بعض أصحابنا يقول عن شيخ له أنَّ ابن الأنباري لما صنف كتابه في الوقف والابتداء جي‏ء به إلى ابن مجاهد (ت: 324هـ) فنظر فيه وقال: لقد كان في نفسي أن أعمل في هذا المعنى كتاباً وما ترك هذا الشابّ لمصنِّف ما يُصنَّف. [غاية النهاية لابن الجزري 2/231]وقال ابن الجزري: وكتاب ابن الأنباري في الوقف والابتداء أول ما ألف فيه وأحسن. [ن.م] وكتاب « القطع والائتناف » يعتبر موسوعة في الوقف والابتداء يجمع ابن النحاس كلّ ما قيل فيه فهو يناقش الآراء المطروحة ويختار أصحها على قدر اجتهاده ومبلغه من العلم.والكتاب الثالث حسب التسلسل الزمني هو كتاب أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي (ت: 444هـ) الموسوم بـ « المكتفى في الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ ». [طبعته مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي]والمؤلف هو عمد من أعمدة علم القراءات. قال عنه الذهبي شمس الدين (ت: 748هـ) في تذكرة الحفاظ: « إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات والقرّاء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك وله مئة وعشرون مصنّف ». [تذكرة الحفاظ لشمس الدين أبي عبد الله محمد ج 3 ص 1130مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن / الهند 1376 هـ - 1957م]وكتاب المكتفى هو استعراض من المؤلف لكتب السابقين وأقوالهم وموازنة بينها وكان قد رجّح بين مسائل كتب وأقوال السابقين وحقق فيه القول ودقّق فيها النظر بعين ناقدة بصيرة فاختار منها الصحيح وطرح السقيم مستدلاً لكل ذلك بالأحاديث المسندة والقراءات المتواترة والأقوال المنسوبة فجاء صحيحاً موثقاً مختاراً بعبارة موجزة وأسلوب رفيع.والكتاب الرابع « المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء » لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري (ت: 926هـ). [طبع بهامش كتاب منار الهدي للأشموني ط 2 مطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر عام 1393هـ - 1973م] وهذا الكتاب هو تلخيص لكتاب « المرشد في الوقف والابتداء » للحسن بن علي بن سعيد العماني المتوفي بُعَيد الخمسمئة من الهجرة.يقول الأنصاري في مقدمة كتابه: « فهذا مختصر المرشد في الوقف والابتداء الذي ألفه العلامة أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد رحمه الله تعالى وقد التزم أن يورد فيه جميع ما أورده أهل هذا الفن وأنا أذكر مقصود ما فيه مع زيادة بيان محل النزول وزيادة أخرى غالبها عن أبي عمرو عثمان ابن سعيد المقرئ وسميته المقصد لتلخيص ما في المرشد ». [هامش منار الهدي، ص 4]والكتاب الخامس هو كتاب « منار الهدى في بيان الوقف والابتداء » مصنّفه هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم الأشموني من أعيان القرن الحادي عشر الهجري. [طبع بالطبعة الثانية في مطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر عام 1393هـ - 1973م]هذا الكتاب اشتهر من بين كتب الوقف والابتداء عند المتأخرين فأقبلوا عليه يتدارسونه، وطريقة المؤلف أنه بدأ كتابه بمقدمة أودع فيها فوائد جمّة تنفع القرّاء وتعينهم على معرفة الوقف والابتداء فبيّن أهمية هذا العلم ومن اشتهر فيه ثم يبيّن نشأة هذا العلم وتعريفه وأقسامه ثم يعرض بعض التنبيهات الواجب اتباعها كاتّباع رسم المصحف العثماني ثم يبدأ بتطبيق هذه القواعد على سور القرآن مبتدئاً بسورة الفاتحة فالبقرة إلى آخر القرآن متتبعاً نهج من سلفه ببيان حكم كل موقف ودرجته من التام والكافي والحسن والجائز والقبيح ويناقش في المسائل الخلافية ويرجح بين الآراء وتظهر شخصيته العلمية جليّة من خلال ذلك. إنّ مؤلّفي هذه الكتب الخمسة قد اتّخذوا طريقة واحدة في الكتابة بدءاً بابن الأنباري وانتهاءً بالأشموني كلّ منهم بعد المقدمة المفيدة يبين حكم كل موقف ودرجته في سور القرآن سورةً سورةً مبتدئين بسورة الفاتحة فالبقرة إلى سورة الناس.