القرآن الكريم محور المعارف الاسلامية


يمثّل القرآن الكريم - بالإضافة لكونه المصدر الأساس للدين الإسلامي - محور المعارف الإسلامية ورأس الثقافة وجوهر الرصيد الحضاري المتكامل. فليس كتاب الله الكريم هو كتاب ديني وهدايتي يثبّت الإنسان والمجتمع على صراط النجاة المستقيم فقط من هذا الجانب، وإنّما هو هبة إلهية ربّانية منّ بها الله تعالى على الإنسان لينير قلبه أولاً ويرسم له طريق المعرفة بفتحه باب العلوم بشتى ألوانها ثانياً. لذا فإنّ مصدر الجوانب المعرفية ومعالم المعرفة القرآنية أمر يحتاج إلى جهد عظيم ومشقّة كبيرة، وخاصّة في زماننا الحاضر الذي أكّد العلم الحديث صدق ما ورد في القرآن الكريم من حقائق علمية كثيرة، فهو يمثّل منبع العلوم والمعارف الإسلامية التي شادت الحضارة الحديثة بنيانها عليها، فكل العلوم الدينية انبثقت من القرآن الكريم، فقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة في كافة أبواب العلوم أنّ النظريات والاكتشافات الجديدة ترتكز على أسس ومبادئ قد أشار لها القرآن الكريم قبل قرون من اكتشافها وابتكارها. فلقد أخرج هذا الكتاب الكريم في تجربته الحضارية الأولى الأمّة من غياهب الجهل والقصور والظلمات، وصنع مجتمعاً فريداً يبشِّر برسالة عالمية تحمل راية الهدى والخلاص، وهو في الوقت نفسه يؤسّس لمنهج حضاري جديد يقود العالم بأسره إلى أفق جديد من التقدّم والرقي المعنوي والمادي.وهذا ما نقوله ونؤكّد عليه اليوم على الرغم من كل التحدّيات العالمية التي تواجهها الأمّة الإسلامية والغزو الثقافي والمادي الذي يحيط بها من كل اتجاه؛ لأنّ القرآن هو القائد والدليل ومنبع للفكر الوضاء؛ فهو منبع الفقه والكلام، ومركز التفسير وعلوم القرآن، ومتضمّن معاني العلوم الطبيعية والإنسانية. لذا فهو يحرّض العقل المسلم على التأمّل والسير الحثيث للكشف عن قوانين الطبيعة والتاريخ والمجتمع؛ لأنّه قد بيّن كل ما يحتاجه الإنسان؛ إذ هو الدستور الشامل للبشرية جمعاء. يقول تعالى في محكم كتابه: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء}[سورة النحل: 89].فهو بذلك يمثّل المرجعية الحاكمة على كلّ الأصول الفكرية والثقافية في جميع مجالات الحياة، وليست جوانبه قاصرة على نوع واحد أو لون معيّن من العلم. كما أنّ التفكير الذي يحثّنا عليه القرآن الكريم ليس مقصوراً على نطاق من المعرفة محدد؛ فإنّ العلم الذي ينوّه عليه القرآن الكريم عامّ يشمل أنواع العلوم كلّها، والتفكير الذي يدعو إليه فسيح يسع لأنواع التفكير كلّها؛ لأنّ مقداراً كبيراً من آياته متصل بالعلوم العامّة.إنّ الحياة الإسلامية كلّها ليست سوى التفسير القرآني؛ فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ الفقه، ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقيا نشأ الكلام، ومن النظر فيه ككتاب أخروي نشأ الزهد والتصوّف والأخلاق، ومن النظر فيه ككتاب للحكم نشأ علم السياسة، ومن النظر فيه كلغة إلهية نشأت علوم اللغة ... الخ. وتطوّر العلوم الإسلامية جميعها إنّما ينبغي أن يبحث في هذا النطاق؛ في النطاق القرآني نشأت، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطوّرت وواجهت علوم الأمم الأخرى تؤيّدها أو تنكرها في ضوئه. [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1: 227].ويقول السيوطي: "وإنّ كِتَابَنَا لَهُوَ مُفَجّر العلوم ومَنْبَعُهَا، ودائرة شَمْسِهَا ومَطْلَعُهَا، وأَوْدَع فيه سبحانه وتعالى عِلْمَ كُلِّ شيءٍ، وأبان فيه كُلَّ هدىً وغَيٍّ، فَتَرَى كُلَّ ذي فَنٍّ مِنْه يَسْتَمِدّ وعليه يَعْتَمِد". [الإتقان في علوم القرآن 1: 6].فالقرآن الكريم يدعو في كثير من آياته إلى التفكّر في الآيات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في أوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه، وفي خلق الأرض وما في بطونها، والبحار والجبال والأودية، واختلاف الليل والنهار وتبدّل الفصول السنوية، والإنسان وما أودع فيه من الأسرار، وعالم النباتات والحيوانات. كما يدعو إلى السير في أقطار الأرض والتفكّر في آثار الماضين والفحص في أحوال الشعوب وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبر. فهو في كلّ هذا إّنما يرشد إلى تعلّم العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والأدبية وسائر العلوم التي يمكن أن يصل إليها الفكر.إنّ القرآن الكريم لهو مجموعة متكاملة من المعارف البشرية والعلوم الإنسانية، فهو يتحدّث عن التأريخ، والحقوق، والسياسة، والأخلاق، والتربية، والعقائد، والأحكام، وعلم الاجتماع و... ويطرح رؤيته الخاصّة في جميعها، ويدعو العلماء المسلمين إلى اكتشاف الرؤية القرآنية في كلّ واحد من الموضوعات المذكورة.يقول السيد الطباطبائي في تفسيره (اشتمل القرآن على أكثر من ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل، أو تُلقِّن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ الحجّة لإثبات حق أو لإبطال باطل، أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه. ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشي‏ء ممّا هو عنده، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنّه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم).[الميزان في تفسير القرآن 5: 260].ولأنّ كتاب الله تعالى كتاب هداية وإيمان وحياة، فنحن مأمورون من قبل الله تعالى في القرآن ومن قبل الرسول وأهل بيته الأطهار - عليهم السلام - فيما ورد عنهم من أخبار أن نتدبّر في آيات القرآن بالتفكير في معانيه والاتعاظ والعمل بها بعد تعلّمها؛ فإنّ تعلّم القرآن وتعليمه هو المدخل الطبيعي لفهم القرآن والتفكّر بآياته. قال الله تعالى: ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[سورة ص: 29]. ووبّخ الذين لا يتدبّرون هذا الكتاب العزيز قائلاً: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا?[سورة النساء: 83].وقد حرص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على مباشرة تعليم القرآن لأصحابه، وأمرهم بتعليم بعضهم بعضاً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن مأدبة الله فتعلّموا من مأدبة الله ما استطعتم، إنّه النور المبين، والشفاء النافع، تعلّموه فإنّ الله يشرفكم بتعلمه".[ بحار الأنوار 89: 267 عن تفسير الإمام العسكري].وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "القرآن هدىً من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة". [تفسير العياشي 1: 5].وعن الإمام علي (عليه السلام): "أيـّها الناس، إنّه من استنصح اللّه وُفّق، ومن اتّخذ قوله دليلاً هُدي للتي هي أقوم". [نهج البلاغة (محمد عبدة) 2: 31].وعنه عليه السلام ايضاً: "واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً".[نهج البلاغة (محمد عبده) 2: 91].وعنه عليه السلام كذلك: "ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا إنّ فيه علمَ ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم ونظم ما بينكم".[نهج البلاغة (محمد عبدة) 2: 54].وعن الإمام الباقر(عليه السلام): "ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اُولئك القوم ماتت الآية لما بقيَ من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض".[تفسير العياشي 1: 10].وقال الإمام الصادق عليه السلام: "ينبغي للمؤمن ألّا يموت حتى يتعلّم القرآن، أو يكون في تعلمه".[الكافي 2: 607].وعنه عليه السلام أيضاً: "لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه، ولكنّهم لا يُبصِرون".[عوالي اللالئ 4: 116].نعم، إنّ في هذه الأحاديث الشريفة والمرويات الكريمة وغيرها - وهي كثيرة - عن النبي وأهل بيته دعوة إلى النظر في آيات القرآن الكريم والتفحّص في معانيها والتدبّر والتأمّل في ما تحمله من علوم تخدم البشرية في كافة الجوانب الحياتية وعلى مرّ العصور، لذا فنحن مأمورون بهذه الحقيقة، وهي أن نتدبّر في القرآن الكريم أكثر فأكثر، ونغوص في أعماقه ونتزوّد من ينابيعه ومعارفه الصافية والنفيسة قدر المستطاع، وما ورد فيها من تأكيد على ما في تلاوة القرآن واحترامه والاُنس معه من فضيلة كبيرة هو لإدراك معارف القرآن والعمل بآدابه وأحكامه، والخطوة الاُولى لذلك هو التدبّر والتأمّل في القرآن.ومن هنا نرى اليوم الكثير من الباحثين الغربيين في تاريخ الفلسفة الإسلامية حجبهم عن التعرّف على الروافد الأصيلة التي انبثق منها المعقول الإسلامي، عدم وسعهم لتدبّر آيات القرآن الكريم، والتأمّل في معاني الأحاديث الشريفة والأدعية المأثورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، ليبصروا ما تكتنزه تلك الآثار المقدسة من مقولات وقواعد ومفاهيم فلسفية مهمّة.والأسلوب القرآني الاستدلالي لم يقتصر في خطابه على طائفة دون غيرها، فليس هو خطاباً لعامّة الناس فحسب أو للخاصّة، وإنّما هو للناس كافة، فإنّ (القارئ لآيات القرآن من دهماء الناس يرى فيه علماً بما لم يكن يعلم، قد أدركه بأسهل بيان وأبلغه، ويرى فيها العالم الفيلسوف الباحث في نشأة الكون دقة العلم وأحكامه وموافقة ما وصل إليه العقل البشري لما جاء بذلك النصّ الكريم، مع سمو البيان وعلو الدليل، فتبارك الذي أنزل القرآن).[المعجزة الكبرى القرآن (محمد أبو زهرة): 371].والمتأمّل في الخطاب القرآني وأسلوبه وبلاغته يستبين له شمولية الخطاب لجميع أصناف البشر واختلافهم في جميع الأمكنة والملل، أو اختلافهم في المستوى العلمي والثقافي، فهو لم يجعل نداءاته إلى فئة دون أخرى أو جنس دون غيره أو مجموعة دون سواها، بل شمل بها جميع أبناء البشر بجميع مستوياتهم وطبقاتهم، فإنّ الكثير من الآيات الكريمة جاءت من الله تعالى بصيغة العموم، ممّا يعني أنّ المخاطب به جميع الناس، ومن جملتهم العلماء والباحثين في شؤون العلوم المختلفة والمتنوّعة. لذا فهو دستور متكامل وشامل وهو المنبع الصافي للعلوم وأساسها وسرّها ومكنونها.