سلسلة دروس في الوقف والابتداء -10-


الوقف القبيح: تعريفه أنواعه وحكمهقال أبو عمرو الداني: اعلم أنَّ الوقف القبيح هو الذي لا يعرف المراد منه. [المكتفي للداني ص 148]وعبّر الأشموني عنه: هو أن يتصل ما بعده بما قبله لفظاً ومعنىً. [منار الهدي للأشموني ص 9]وتعريف المتأخرين له: هو الوقف على لفظ غير مفيد لعدم تمام الكلام، وقد تعلّق ما بعده بما قبله لفظاً ومعنى [الإضاءة في بيان أصول القراءة للشيخ علي محمد الضباع طبع ونشر عبد الحميد أحمد حنفي القاهرة مصر لا. ت] وتحته نوعان:النوع الأول: هو الوقف على لفظ لا يفهم السامع منه معنى، ولا يستفيد منه فائدة يحسن سكوته عليها لشدة تعلّقه بما بعده من جهتي اللفظ والمعنى معاً.نحو: الوقف على المبتدأ والوقف على الرافع دون المرفوع، وعلى المضاف دون المضاف إليه، وعلى الاسم الموصول دون صلته، والوقف على فعل الشرط والبدء بجوابه، وعلى المقسم به والابتداء بجواب القسم، والوقف على المنعوت، والبدء بالنعت، وعلى المعطوف عليه والبدء بالمعطوف، وعلى المبدل منه والابتداء بالبدل، وعلى المؤكَّد والبدء بالمؤكِّد، وعلى عامل الحال أو صاحبها والابتداء بالحال، وعلى المميّز والبدء بالتمييز، وعلى المستثنى منه والبدء بالمستثنى، وعلى فعل الأمر والبدء بجوابه، وما إلى ذلك من أنواع الوقف التي لا تتِمّ بها جملة ولا يفهم منها معنى، فلا يسوغ الوقف عليها والابتداء بما بعده [معالم الاهتداء للحصري ص 41] إلاّ لضرورة كانقطاع النّفس أو عرض له شي‏ء من الأعذار التي لا يمكن بها أن يصل القارئ إلى ما بعده، أو كان الوقف لامتحان أو تعليم فحينئذ يجوز له الوقف على أي كلمة كانت وإن لم يتمّ المعنى لكن يستحب له، وقيل يجب أن يبتدئ من الكلمة التي قبل الموقوف عليها أو بها على حسب ما يقتضيه المعنى من الحسن، لأنّ الوقف قد أبيح للضرورة فلمّا اندفعت لم يبقَ مانع من الابتداء بما قبله. [القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 214]ولهذا أشار ابن الجزري في مقدمته: وَغيرَ ما تمَّ قبيح وَلَه يوقف مضطراً ويبدأ قبله [طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري (ت: 833هـ) تحقيق الشيخ علي محمد الضباع ط. مكتبة ومطبعة مصطفي الحلبي وأولاده مصر. الطبعة الأولي 1369هـ - 1950م]النوع الثاني: الوقف الذي يفضي إلى فساد المعنى وتغيير الحكم الشرعي كالوقف على كلمة ? وَلأَبَوَيْهِ ?، كما في الآية الكريمة: ?يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ ...? (النساء /11) فالوقف عليها يفيد أحد أمرين:إمّا اشتراك البنت في النصف مع أبَوي الميّت وإمّا أخذ الأبوين النصف أيضاً كالبنت، وكلا الأمرين باطل فإن الحكم الشرعي أنّ البنت تأخذ نصف التركة إذا انفردت كما قال تعالى: ?وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ? وإنَّ لكل واحد من أبوي الميت السدس إذا وُجِدَ للميّت ولدٌ ذكر كان أم أنثى، قال تعالى: ?وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ? والولد يتناول الذكر والأنثى. وعلى هذا يكون قوله تعالى: ?وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُس ...? مستأنفاً لبيان ميراث الأصول بعد بيان ميراث الفروع، وحينئذ فالوقف إنّما يكون على ?فَلَهَا النِّصْفُ? ثم يبتدأ بقوله ?وَلأَبَوَيْهِ ...?.ونحوه الوقف على ?وَالْمَوْتَى? في قوله تعالى: ?إنّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى ...? (الأنعام/36) فإن الوقف عليه يفيد أن الموتى يستجيبون أيضاً مع الذين يسمعون وليس المعنى كذلك، بل المعنى أنَّ موتى القلوب وهم المنكرون للبعث الجاحدون لليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب لا يجيبون داعي الإيمان، ولا يسمعون له سماع انقياد وقبول، وسيبعثهم الله يوم القيامة ثم يجازيهم على كفرهم جزاءً وفاقاً، وعلى هذا يتعين الوقف على ?يَسْمَعُونَ? ثم يبتدأ بقوله ?وَالْمَوْتَى ...? لأنَّ الواو فيه للاستئناف والجملة بعدها مستأنفة لبيان حال الكفار وجزائهم في الآخرة.ومثل ذلك الوقف على كلمة ?لَهُ? في قوله تعالى: ?لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ? (الرعد/18)، فالوقف على هذه الكلمة يترتب عليه اشتراك الذين لم يستجيبوا لله ولم يذعنوا لأحكامه مع الذين استجابوا له تعالى وأذعنوا لأوامره ونواهيه في الجزاء، ولا شك أن هذا الاشتراك باطل لقوله تعالى: ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ? (سورة ص /28) و ?لا يَسْتَوِي أصحاب النَّارِ وَأصحاب الْجَنَّةِ أصحاب الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ? (الحشر/20).ومثال ذلك أيضاً الوقف على ?وَإِن يَعُودُواْ? في قوله تعالى: ?قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ ...? (الأنفال/38)، فالوقف عليه يفيد تحقّق الغفران للكافرين سواء انتهوا عن كفرهم ورجعوا إلى ربّهم أم عادوا إلى الكفر ورجعوا إلى التمرّد والعناد ولا يخفى بطلان هذا المعنى.ونحوه: الوقف على ? وَّإِن تَوَلَّوْا ? في قوله تعالى: ?فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ...? (آل عمران /20) فإن هذا يترتب عليه التسوية في الاهتداء بين من أسلم ومن تولى عنه وهذا المعنى بيّن الفساد.ونحوه: الوقف على ?كَفَرْتُمْ? في قوله تعالى: ?لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ? (إبراهيم/7) فإنَّ الوقف عليه يوهم أنَّ وعد الله تعالى بزيادة النعم للكافرين عامّ سواء شكروا الله تعالى على نعمه فآمنوا به وبرسله أم استمرّوا على كفرهم وضلالهم وهذا واضح البطلان.فينبغي للقارئ الكريم أن يقف على كلمة ?الْحُسْنَى? في سورة الرعد، وعلى كلمة ?سَلَفَ? في سورة الأنفال، وعلى ?اهْتَدَوْا? في آل عمران، وعلى ?لأَزِيدَنَّكُمْ? في سورة إبراهيم تقريراً للحقائق ودفعاً لتوهم المعاني الفاسدة. [معالم الاهتداء للحصري ص 42 - 44]النوع الثالث: الوقف الذي يوهم اتّصاف الله بما يتقدّس عنه ذاته وتتبرّأُ منه صفاته ويفهم مستحيلاً في حقّه تعالى كالوقف على قوله تعالى ?فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ ...? (البقرة/258) فهذا الوقف يوهم اشتراك الله مع الكافر في البهت وهو الانقطاع والحيرة وهو تعالى منزّه عن ذلك فالوقف هو على ?كَفَرَ? أو وصله بآخر الآية. ونحوه الوقف على قوله تعالى: ?لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ ...? (النحل/60)، فهو يفيد أنَّ لله مثل السوء وهو سبحانه له المثل الأعلى، ومثل ما تقدم في القبح الوقف على ?إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي? (القصص/50 وغافر/28)، فهذا الوقف يدلّ على أنَّ الله لا يهدي أحداً لأنّ حذف المعمول يؤذن بالعموم وهذا معنى فاسد، وذلك أنّ المراد بالهداية في الآيتَيْن المذكورتَيْن الهداية الخاصة، وهي توفيق القلب وشرح الصدر بالإيمان الذي ينبعث منه العمل الصالح، وهي بهذا المعنى منحة ربّانيّة يهبها الله عزّ وجلّ من يشاء من عباده كما قال تعالى لنبيه محمد (ص): ?إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ? (القصص/56).وقد مضت سنّته تعالى مع عباده أنّه لا يمنح هذه الهداية الخاصة من ظلم نفسه وآثر طريق الغيّ على طريق الهدى، وأسرف في العناد والكذب كما قال تعالى في الآية الأولى: ?إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? (القصص/50) وفي الآية الثانية: ?إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ? (غافر/28) فيجب على القارئ أن يقف على ?السَّوْءِ? في آية النحل أو يصل إلى ?الأَعْلَى? أو إلى آخر الآية وأن يصل ?يَهْدِي? بما بعده من قوله تعالى ?الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? أو ?مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ? في آيتي سورة القصص وغافر، حتى لا يوقع السامع في المعنى الفاسد والوهم الباطل، فإن لم يفعل أَثِم ووقع في الخطأ الفاحش والخطل البغيض، فإن تعمّد الوقف على ما تقدم وما شابهه وقصد المعنى الفاسد خرج من ربقة الإسلام والعياذ بالله تعالى. [معالم الاهتداء للحصري ص 45]ومن هذا النوع من القبيح أيضاً الوقف على الأسماء التي تبيّن نعوتُها حقائقها نحو قوله تعالى: ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ? (الماعون /4) لأنّ المصلين اسم ممدوح محمود لا يليق به ويلٌ، وإنّما خرج من جملة الممدوحين بنعته المتصل به وهو قوله تعالى: ?الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ?. [المكتفي للداني ص 151]وأقبح من هذا وأبشع الوقف على المنفي الذي يأتي بعد حرف الإيجاب ?لا إِلَهَ? و ?وَمَا مِنْ إِلَهٍ? من قوله ?لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ? (الصافات/35) و ?وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ? (آل عمران/62) و?لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ? وشبهه ولو وقف واقف قبل حرف الإيجاب من غير عارض لكان ذنباً عظيماً، لأنّ المنفي في ذلك كلُّ ما عُبِدَ غيرَ الله ومثله: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً? (الإسراء/105) و ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? (الذاريات/15) إن وقف على ما قبل حرف الإيجاب في ذلك آل إلى نفي إرسال محمد (ص) وخلق الجنّ والإنس وكذلك ?وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ? (الأنعام/95) و ?قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ? (النمل/65) وما كان مثله.ولا يخفى على من عنده أدنى مسكة من عقل أو إثارة من تفكير وَجْه القبحِ والشناعةِ في الوقوف السابقة وما ماثلها، فعلى القارئ الفطن أن يتجنبها ويتحرز منها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإلاّ اقترف إثماً كبيراً وذنباً جسيماً فلو تعمّدها وقصد معناها كفر في الحال نعوذ بالله من ذلك. [معالم الاهتداء للحصري ص 46].