رؤوس الآيات



الشيخ خيرالدين الهادي الشبكي



    مما يلفت نظر المستمعين كثيراً هو مسألة القراء في الوقوف الاختياري على رؤوس الآيات بغض النظر عن علاقة هذه المواضع بما قبلها أو بعدها؛ بل لربما الكثير من القراء يستأنسون بالوصول إلى مواضع رؤوس الآيات فيقفون عليها دونما أن يسمحوا لأنفسهم حتى بمجرد التفكير كون الوقف صحيح أو غير صحيح؛ وذلك لأن كبار القراء وقفوا على عموم رؤوس الآيات, فقلدهم من جاء بعدهم بذلك من دون الرجوع إلى المسألة وأحكامها.
    ومما هو معلوم أن العربية تتكامل بالحفاظ على الترابط بين أركانها, فأي خلل في الوصل أو القطع بين أركان الجملة العربية خلاف لظاهر القواعد اللغوية والتي لطالما حرص عليها الفطرة السليمة وأكدتها الرؤية القرآنية وتناسقت بذلك الروايات وأقوال المعصومين عليهم السلام منذ اللحظات الأولى لتقعيد أصول العربية على يدي أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن وجه تلميذه أبا الأسود الدؤلي بأن ينحو هذا النحو.
    والمثير في الأمر أن البعض يحاول تسويق روايات على سُنِّية الوقف على رؤوس الآيات بغض النظر عن المتعلق, وعن مخالفته لضوابط العربية التي لطالما جاءت محترمة في القرآن الكريم, ومما شاع في ذلك رواية أسندها البعض إلى أم سلمة رضوان الله تعالى عليها تنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وتفيد بأنه صلى الله عليه وآله كان إذا قرأ سورة الفاتحة قطعها آية آية, وحينما نتفحص هكذا روايات مع العلم أن كل ما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وآله هو حجة على الجميع قولاً أو فعلاً أو إقراراً, إذا ثبت صحة الرواية, فكما هو معلوم أن هناك من نسب بعض الروايات إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله جزافاً وتسويقاً لبضاعته الفاسدة أو لتفريق المسلمين أو لغير ذلك.
    ولسنا في مقام مناقشة الرواية التي رُويت عن أم سلمة رضوان الله عليها في الخصوص، ولكن لا بأس بأن نقف على بعض ما يتعلق بها, فمن جهة سندها فهناك أشخاص متهمون وقد أُسند إليهم الرواية ومن هؤلاء (علي بن أبي مليكة), الذي يعتقد بعض دارسي علم الرجال أنه من الشخصيات الوهمية التي لا وجود لها أصلاً, ومن جهة أخرى فعلى فرض صحة الرواية نعتقد أنها كانت إرشادية لبيان مواضع رؤوس الآيات في سورة الفاتحة, خاصة أن المسلمين كانوا حديثي العهد بالآيات ومواضع رؤوسها, أو قد تكون مختصة بقراءة الفاتحة فقط دون غيرها, أو يحتمل أن القراءة كانت تعليمية؛ وذلك لأن الثابت عندنا أن هناك آيات كثيرة لا يصح الوقف عليها, إما لكون المشكلة في موضع الوقف عليها بحيث يفصل بين أركان العربية وتتغير دلالة الآيات كالوقف على قوله تعالى: (فويل للمصليِّن), أو قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر), أو قد تكون المشكلة متعلقة بالابتداء بعد الوقف كالابتداء بقوله تعالى: (في الدنيا والآخرة) ص35من سورة البقرة. إذن هناك آيات كثيرة عند الوقوف على رؤوسها تختل موازين الدلالة وقد تتغير المعاني فتزيد أو تنقص.
    إن المهم في الأمر هو أن ندرك أنَّ مواضع رؤوس الآيات كغيرها من المواضع من جهة الوقف والابتداء, فقد تكون هذه المواضع بقوة الوقف اللازم فيجب الوقوف عليها أو قد تكون بقوة الوقف التام فيكون الأفضل هو الوقوف عليها, أو قد تكون بقوة الوقف الجائز فيخير القارئ بالوقف أو عدم الوقف, أو قد تكون مواضع رؤوس الآيات بقوة الوقف الحسن فيكون الأفضل هو الوصل بينها وبين ما بعدها, أو قد تكون بحكم الممنوع من الوقف عليها لضياع المعنى أو تغيره أو بتره عن الأصل فحينئذ يمنع الوقف عليها, ومما يشهد على ما ذكرناه ويخالف ما نُسب إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله من الرواية بالوقف المطلق على رؤوس الآيات هو أن النسخ المطبوعة من القرآن الكريم حتى عهد قريب. بل لا يزال معتمداً في الكثير من الدول في شرق أسيا هو وجود علامات إرشادية على رؤوس الآيات وبحسب مواضعها فبعضها كانت تشير إلى منع الوقوف أخرى كانت تشير إلى ضرورة الوقوف وإشارات أخرى بحسب المقام.
    ومن الجدير بالذكر أن الوقف لو كان سنة حسنة عند مواضع رؤوس الآيات لما وجدنا في النسخ القرآنية علامة منع الوقوف على رؤوس الآيات, ومن جانب آخر كيف لنا أن نتصور الوقوف على رؤوس الآيات الطويلة؛ لأن البعض يعتقد أن الرواية تشير إلى القراءة من بداية الآية إلى نهايتها والحال لا يمكن تصديق ذلك أو تصوره. فهناك آيات طويلة لا يمكن لأي من القراء الوصول إلى نهايتها كما في آية الدَّين في أواخر سورة البقرة المباركة.
     وعلى هذا فإن الصحيح هو رعاية الترابط اللفظي والمعنوي في الوقوف على رؤوس الآيات, وعدم الانجرار إلى آراء تخدش بقواعد العربية وضوابطها, وبالتالي فهي تغيِّر دلالات النصوص, وتخرجها عن مقاصدها الحقيقية, وينبغي الالتزام بالقراءة الصحيحة والمنسجمة مع الرؤية التفسيرية والتدبرية لفحوى الآيات ومعانيها التي تتأثر كثيراً بالوقف والابتداء.