الدعوة القرآنية في هداية البشرية


   د. الشيخ عماد الكاظمي


بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المصطفى الأمين، وعلى آله المعصومين ..

 إنَّ القرآن الكريم كتاب هداية للبشرية كلها عامة، وللمؤمنين به خاصة؛ وتكمن هذه الهداية في الفطرة الإلهية التي فطر الله الناس عليها، وهذه من الحقائق الإنسانية التي لا يمكن للإنسان أنْ ينكرها لو تجرَّد عن كُلِّ عصبية فكرية أو تقليدية توارثها عن أشياعه أو آبائه، والقرآن الكريم قد أشار إلى هاتين الهدايتين العامة والخاصة بأعذب أسلوب وبيان، فقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِيْ لِلَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيْرًا()، فالقرآن كتاب هداية للناس عامة لكُلِّ طريقة قويمة تتلائم مع الفطرة الإنسانية، وما تحتاجه من خير وصلاح على المستوى الفردي والاجتماعي، وكتاب هداية وبشارة خاصة للمؤمنين الذين تربطهم عقيدة بالله تعالى.

ولو تتبعنا الآيات القرآنية المباركة التي تتضمن الدعوة القرآنية لهداية البشرية نحو صلاحها وسعادتها، فهي متعددة، وقد ركزت على موضوعات معينة، يمكن من خلالها معرفة أبعاد تلك الدعوة، التي تحتاج البشرية اليوم أمس الحاجة، بعد أنْ ثبت عجز كُلِّ النظريات المادية التي كانت تنادي بالسعادة البشرية، وأحاول بإيجاز أنْ أستعرض قراءة تأملية لآية مباركة واحدة مثالًا للآيات القرآنية المتعددة الأخرى()، مع بيان أبعادها وآثارها، وقد تضمنت الخطاب العام إلى الناس حيث تصدرت الآية قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، من دون تقييد بعقيدة معينة، أو طبقة محددة، وإنْ كان ختامها للمؤمنين.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِيْ الصُّدُوْرِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ().

إنَّ في الآية المباركة دلالات مهمة متعددة تتعلق بالقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لتبليغ الناس كلهم، فذكر الله تعالى خصالًا أربع للقرآن يحتاجها الإنسان بصورة عامة لتحقيق سعادته وﭐطمئنانه، وقد أكد المفسرون أنَّ المراد بذلك هو القرآن خاصة، ويمكن بيانها في الموضوعات الأربعة الآتية:

1- الموعظة. لقد خص القرآن الموعظة في بيانه؛ لما تضمنه القرآن الكريم من مواعظ كثيرة، لها أنفع الأثر في بناء الفرد والمجتمع الإنساني، وفي ذلك تأكيد على مقامها في التربية والتكامل الإنساني، وقد أكد العقلاء أهمية الموعظة في التواصل مع الآخرين، والوصول إلى نتائج محمودة، بل جعل الله "الموعظة الحسنة" إحدى سبل دعوة الناس إليه، من خلال الرفق بهم، وﭐتخاذ الأساليب التي تكون قائمة على الرفق والتودد، وعدم اللجوء إلى الأساليب التي لها تأثير سلبي في النفس الإنسانية، وإنْ كان في بعض الأحايين تفتقر الموعظة إلى الزجر والتخويف، وهذا يكون على وفق الموقف الذي يسلكه الداعي إلى الله تعالى، قال تعالى: ﭐدْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ().

2- الشفاء. إنَّ الانحرافات والأمراض العقدية والفكرية هي أعظم بكثير من أمراض البدن التي يُبتلى الإنسان بها، فالانحراف في الأول له آثار كبيرة تقع عليه وعلى المحيط الذي له علاقة به كالأسرة مثلًا، فضلًا عن الأخطار التي يمكن أنْ تصدر عنه؛ لذلك القرآن قد أكد على ذلك في مناسبات كثيرة وحذر منهم، بل وقرنهم بالمنافقين، قال تعالى: إِذْ يَقُوْلُ الْمُنَافِقُوْنَ وَالَّذِيْنَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ()، وقال تعالى: وَإِذْ يَقُوْلُ الْمُنَافِقُوْنَ وَالَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُوْلُهُ إِلَّا غُرُوْرًا()، فالاتهام بالغرور للمؤمنين هو أحد تلك الانحرافات التي تصدر عن الذين في قلوبهم مرض، وقد أكد القرآن الكريم في كثير من دعواته على أنه شفاء من تلك الأمراض والانحرافات للمؤمنين خاصة، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ()، فالشفاء من تلك الأمراض التي تلوِّث الفطرة الإنسانية لا يكون إلا بالرجوع إلى مصدر العلاج لهذه النفوس، والقرآن قد تصدى لذلك.

3- الهداية. والهداية ضد الضلال، والله تعالى مصدر الهداية والصلاح للبشرية، وهو يدعوهم إلى ذلك؛ من خلال تعليماته التي تضمنها القرآن الكريم، فضلًا عن السنة الشريفة، والهداية نحو الخير والصلاح والبر بأنواعه هي طريق للتكامل الإنساني، فالإنسان بفطرته يصبو نحو الهداية، والقرآن أكد تلك الدعوة الفطرية، وكذا الحال في كثير من الآيات قد تضمنت هذا المعنى، قال تعالى في بيان تأثُّر غير الإنسان بالقرآن الكريم وما فيه من آيات عظيمة تدعو للخير والهداية، وتبيِّن آثار ذلك: قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ﭐسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوْا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِيْ إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا()، ومن لطائف ما ورد في هداية القرآن الكريم أنه لا يختص بطبقة من دون أخرى، وإنما لطبقات مختلفة من الخلق، فهو كتاب هداية عامة للناس فضلًا عن عقيدتهم، وهو كتاب هداية خاصة لمن له عقيدة به، وكُلٌّ على قدر مقامه ومنزلته، فهو للمؤمنين والمتقين والمحسنين، فعلى المستوى العام فهو للناس كُلِّهم، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ()، وعلى المستوى الخاص فإنه هداية للمؤمنين قال تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِيْنٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِيْنَ()، وإنه هداية للمتقين قال تعالى: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيْهِ هُدًى لِلْمُتَّقِيْنَ()، وإنه هداية للمحسنين قال تعالى: ألم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيْمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِيْنَ()، فكل ذلك يؤكد البُعد العظيم للقرآن الكريم وتأثيره في فئات المجتمع.    

4- الرحمة. إنَّ من أهم معالم الدعوة القرآنية هو تجسد الرحمة الإلهية لعباده، فهو الرحمن الرحيم، بل دعوته لإرشاد عباده هو رحمة بهم، والرحمة مفهوم إنساني، ومشترك عام بين الناس كُلِّهم، فالفطرة السليمة والعقل يؤمنان بذلك؛ لأنها من مفردات النفس الإنسانية التي تبحث عن سعادتها، والقرآن قد أيَّد هذا الإيمان الفطري في عدد من الآيات المباركة، ففي بيان أنه رحمة عامة، قال تعالى: أَوْ تَقُوْلُوْا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا()، وفي بيان أنه رحمة خاصة للمسلمين، قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ()، وأنه رحمة للمؤمنين، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ()، وأنه رحمة للمحسنين، قال تعالى: ألم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيْمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ()، وغيرها من الآيات التي تبيِّن أسمى معاني الرحمة الإلهية بعباده أجمعين.

ومن لطيف هذه الصفات الأربعة العظيمة التي وردت في الآية المباركة أنَّ صفة (الرحمة) قد ﭐقترنت مع الصفات الثلاث الأخرى (الموعظة، والهداية، والشفاء) في آيات متعددة غير هذه الآية المباركة، وما في ذلك من دلالات إنسانية كبيرة، فمثلًا: 

(الرحمة والموعظة) قال تعالى: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِيْ الصُّدُوْرِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ().

(الرحمة والشفاء) قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ().

(الرحمة والهداية) قال تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(). 

وقد أكد المفسرون المعاني الإنسانية التي تضمنتها الآية القرآنية موضوع البحث، والآثار المتعلقة بهذه المعاني عند الإنسان عامة، والمؤمن خاصة، نحاول بيان قولين إيجازًا في ذلك:

1- قال الفخر الرازي (ت606/1153م) في بيان هذه الصفات وخصوصيتها في القرآن الكريم: ((ﭐعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة: أولها: كونه موعظة من عند الله. وثانيها: كونه شفاء لما في الصدور. وثالثها: كونه هدى. ورابعها: كونه رحمة للمؤمنين. ولا بد لكُلِّ واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة)) ().

ثم ﭐستعرض ما يتعلق بمعجزة الأنبياء (عليهم السلام) ومقامهم في الأمة، وأهداف رسالتهم في هداية الناس كلهم، فقال في بيان لطيف ومهم عن هذه الآثار الأربعة التي يؤديها القرآن الكريم: ((إنَّ محمدًا "صلى الله عليه [وآله] وسلم" كان كالطبيب الحاذق، وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة، ثم إنَّ الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة:

المرتبة الأولى: أنْ ينهاه عن تناول ما لا ينبغي، ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض، وهذا هو الموعظة.

المرتبة الثانية: الشفاء وهو أنْ يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض ....فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب.

والمرتبة الثالثة: حصول الهدى، وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية؛ لأنَّ جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية .... فقد زال العائق فلا بد من الهداية.

وأما المرتبة الرابعة: فهي أنْ تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم)) ().

    إنَّ في هذا التقسيم وما يتعلق به من مضامين لهي الرسالة الإنسانية الحقيقية التي يؤديها الأنبياء (عليهم السلام) من خلال الشرائع السماوية، والتي ذكرتها النصوص الشرعية، وأكدها الأعلام والمفسرون في كلماتهم.

2- قال السيد محمد حسين الطباطبائي (ت1403ه/1982م) في تفسير الآية المباركة وبيان الأبعاد الإنسانية التي تضمنتها: ((إذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية، أعني أنه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، وقِيس بعضها إلى بعض، ثم ﭐعتبرت مع القرآن، كانت الآية بيانًا جامعًا لعامة أثره الطيب الجميل، وعلمه الزاكي الطاهر، الذي يرسمه في نفوس المؤمنين، منذ أول ما يقرع أسماعهم، إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم، ويستقر في قلوبهم .... فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة، ويبعثهم نحو الخير والسعادة. ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، و لا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحدًا بعد آخر حتى يأتي على آخرها. ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف، برفعهم درجة بعد درجة، وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين. ثم يلبسهم لباس الرحمة .... فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور، هاد إلى مستقيم الصراط، مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه، ويشفي الصدور، ويهدي، ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر، فإنه السبب الموصول بين الله وبين خلقه)) ().

    إنَّ هذا التدرج الإلهي في هداية البشرية تأكيد على الدعوة الإنسانية التي تجلت فيها أحكام الشريعة الإسلامية المقدسة، من أجل الوصول إلى التكامل الإنساني.   

    بختام هاتين الكلمتين لِعَلَمَين من أعلام المفسرين، ولزمانين متفاوتين، ولمدرستين مختلفتين ينتهي حديثنا عن آية قرآنية مباركة واحدة تضمنت معانٍ عظيمة من المعاني التي تفتقر البشرية إليه، ويكمن علاجها وسعادتها فيها، الله تقبل بأحسن قبولك، وﭐجعل القرآن لنا كتاب موعظة وشفاء وهداية ورحمة إنك سميع مجيب.   



 

 

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1- مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت606/1153م)، 
دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ - 2000م.

2- الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي (ت1403ﻫ1982م)، تصحيح: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1417ﻫ 1997م.