العلاج القرآني للقلق والاضطراب المرضي


د. السيد مهدي عيسى البطاط

بما أن الدين الاسلامي هو الدين الأتم الذي رسمه الله للبشرية ليصل به الانسان الى الكمال وبتطبيقه في الحياة يحصل الانسان على السعادة التامة والسلامة الكاملة التي طالما سعى جاداً للحصول عليها و لكن كثيراً ما بائت مساعيه بالخيبة والفشل؛ وذلك لأنه يمتنع من أخذ الدواء من الطبيب و لا يخضع لإرشادات الصانع اللبيب، لماذا هذا العناد؟ والعقل يقول إذا حدث خلل في جهازك، فلابد من استشارة الشركة المصنِّعة؛ لأنها أدرى بما فيه وأعلم بما يفسده وما يصلحه وهي أعرف بسبب الخلل، فنحن البشر نواجه صعوبات ومشاكل كثيرة في حياتنا لاسيما تلك المشاكل  النفسية فلماذا لا نذهب الى صانع هذه النفس وخالقها؟ وهو اعلم بها منا؛ بل وأقرب اليها منا، نذهب ونسأله عن علاجها وما يصلحها وما يفسدها، ما يريحها وما يزعجها، ما يقويها وما يضعفها.

 ومن تلك الامراض التي يسعى البشر لعلاجها هي الأمراض النفسية، فلقد فاقت أمراضُ النفس، امراضَ الجسد حيث كشفت حديثاً بعض التقارير، بأن العقاقير الاكثر تداولاً في العالم اليوم هي للأمراض النفسية. وهذا في الدول المتطورة مادياً و المترقية اقتصادياً ففي فرنسا أستهلك في عام واحد أكثر من مئة مليون علبة دواء من المنومات والمهدئات وفي الولايات المتحدة من بين كل اربعة وصفات طبية وصفة واحدة للمهدئات العصبية[1] وفي مجتمعاتنا التي ابتعدت عن الاسلام فإن هكذا أرقام في ازدياد خطير. و ترى ابن آدم يُشرِّق ويُغرِّب ويُجرِّب انواع الادوية ولا يحصل على نتيجة شافية، بل كل يوم هذه الأمراض في تضخم وازدياد.

 و القرآن كتاب خالق هذه النفس يجيبنا عن سبب هذه العلة بقوله تعالى:" وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا"[2]  و نحن اذا طلبنا الدواء من القرآن فإنه يرشدنا الى أمور على رأسها تقوية الارتباط بالله تعالى، وما أحوج العالم اليوم الى هذا الارتباط، والانسان ذلك الموجود الضعيف لا يمكن له أن يستقل بنفسه، لأن الله خلقه ضعيفاً ليكون الضعف سبباً  الى الرجوع الى ربه وليس الانسان فقط؛ بل و كل شئ ما سوى الله فهو محتاج الى الله وما دام الانسان مبتعد عن خالقه الرحيم فليتوقع إذاً كل خطر ولينتظر كل بلية، ولكن عندما يصل الى ربه فهنا الاستقرار و السكينة  وهنا الراحة والطمأنينة.

وإن أيسر الطرق الى الله، أداء الواجبات وترك المحرمات فما عُبد الله بأفضل من هذا و إن من أهم معالم القرب الى الله ومن أكثر الامور تأثيراً على سلامة النفس كما يخبرنا القرآن الكريم هو الايمان بالله و التوكل عليه.

القلق

عرّفوا القلق بأنه: >حالة من الانفعال المؤلم الغامض مع توقع الخطر من أمرٍ مجهول، وتشبه حالة الخوف، إلا أنه خوف متواصل ولا يعرف مصدرهُ<.

ومنه طبيعي عابر كما أذا واجه الانسان خطراً حقيقياً، فإن انفعالات عضوية و تغيرات فيزيولوجية تحدث عند الانسان و يدخل فيما يسمى بغريزة حفظ الذات.

و حتى الطبيعي فقد أثبتت التجارب أنه يقل بنسبة كبيرة عند المؤمنين الواثقين بالله. و النوع الثانی هو قلق مرضي، و هو حالة شعورية من الضيق؛ و خوف مرضي، و هو حالة شعورية بالضيق مصحوبة بانعكاس عضوي على وظيفة أغلب أجهزة الجسم من تسارع في ضربات القلب، و ضيق في التنفس، و اضطراب في عمل جهاز الهضم و الأعصاب و العضلات، و عملية إفراز الغدد و غيرها، فالخوف و القلق النفسي المرضي في جذورهما و منشئهما واحد و هو الخوف من المجهول، و بدون أي سبب ظاهري منطقي معقول بالنسبة للمريض (و هذا ما يزعجه أشد الإزعاج) و أهم علامة فارقة بين الطبيعي والمرضي، أن الاخير يكون بدرجة غير قابلة للسيطرة .[3]

و القلق هو أكثر المظاهر شيوعاً و إزعاجاً ويشكل القاسم المشترك لكل الأمراض النفسية العصابية، و أغلب الأمراض العقلية الذهانية، و اضطرابات الشخصية و 70% من الأمراض العضوية يكون مصحوبا بالخوف أو القلق الظاهر أو المستتر[4].

أسبابه

يمكن تلخيص الأسباب المذكورة للقلق بما يلي:

1ـ حس الضعف و عدم الكفاءة.

2ـ شعور الوحدة و فقدان الملجأ والسند الذي يُعتمد عليه.

3- التخوف من الفشل.

4- التخوف من المستقبل.

5- النفس الأمارة والشيطان لقوله تعالى:" الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ"([5]).

دور الايمان بالله في السيطرة على القلق

ونرى أن الإيمان بالله تعالى يقابل جميع أسباب القلق تماماً، فحس الضعف والحقارة يرتفع أذا أدرك الانسان أن الى جانبه ربه القوي المطلق والقادر المطلق وهو المؤيد والموفق ولا ثمة ضعف بعد أن يكون الله مع العبد فالباري تعالى هو الذي يتكفل بنصره وتأييده " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى"[6] ولو أجتمع أهل الدنيا على الانسان لا يضروه أذا كان الله الى جنبه وهذا النفسية الفولاذية هي التي نراها عند الانبياء والصالحين فهذا النبي نوح ع يخاطب قومه بعد أن هدَّدوه فيقول لهم متحدياً" يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ"[7]

قال المفسرون في تفسير الآية:" ثم لا يكن أمركم عليكم غمة» معناه ليكن أمركم ظاهراً مكشوفا و لا يكونن مغطى مستورا،‏ و قوله‏ «ثم اقضوا إلي و لا تنظرون» معناه افعلوا ما تريدون، على وجه التهديد لهم، و انه إذا كان الله ناصره و عليه توكله فلا يبالي بمن عاداه و أراد به السوء فان الله يكفيه أمره"[8]، وهو لوحده يقاوم أمة ضالة بأكملها.

 و قال تعالى: " وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ"([9]). ومن هنا كذلك نعرف تضاد التوكل مع القلق والخوف الناشئ من فقدان الشخص او المجموعة التي تسند الانسان وتقف الى جانبه وتدافع عنه.

إن من أهم أسباب القلق كما ذكرنا هو التخوف من الفشل فإنك إذا أوكلت شخصاً على القيام بأمرٍ ما وأنت غير واثق على استطاعته لإنجاز تلك المهمة، فتبقى حينئذٍ قلقاً.

أما إذا وكلت شخصاً تعرف أنه أهل لأداء تلك المهمة فإنك ستكون مطمئناً وهادئ البال، فكيف إذا كان الوكيل هو الله سبحانه وتعالى الذي كل شيء بيده فإن على قدر المعرفة به وصدق التوكل عليه يكون القلب مطمئناً وبعيداً عن القلق والاضطراب.

وقد ضمن الله النتيجة بقوله (فهو حسبه) وأكدها بـ (إن الله بالغ أمره).

والتخوف من المستقبل لامجال له بعد تيقن المؤمن بضمان الله له وعلم بأن كل شيئ يحدث هو بعينه وتحت عنايته. أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[10]

وقال تعالى:{أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([11]).

والقلق ضد الطمأنينة، فالنفوس القلقة بحاجة ماسّه إلى الاطمئنان، وبما أن مصدر الاضطرابات من النفس الامارة والشيطان لقوله تعالى:{ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}([12]).

وقوله تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[13]).

فلكي يتباعد الشيطان عن الإنسان علية أن يتوكل على الله تعالى ليخرج من كيد الشيطان وينجو من جميع شروره.

وقال بعض المفسرين  في تفسيرهم للآية أعلاه: >الذين آمنوا بالله ووعوا حقيقة الإيمان وعرفوا موقع الله من موجود الكون والإنسان وسيطرته المطلقة على مقدرات الأمور، فلا يوجد شيء إلا من خلال أرادته، فما شاء أمراً كان واذا لم يشأ لم يكن ، ولا يملك أحد التدخل في مشيئته وأرادته، ومن خلال ذلك يشعر المؤمنون بالطمأنينة النفسية مع الله، من موقع الإيمان بقدرته ورحمته ورعايته وتدبيره.

فلا مجال للشعور بالقلق والضياع والحيرة ونحوها من المشاعر النابعة من حالات الاهتزاز النفسي امام أحداث الحياة ومشاكلها<([14]).

وهذا ما اعترف به علماء الغرب إذ يقول المحقق الغربي ويليام جيمز: >عند تحليل الحياة الإيمانية (الحالات العرفانية والتقرب إلى الله) نرى أن فيها صفتين بارزتين:

1ـ الحياة تكون ذات طعم وذوق وكأنها رحمة محضة وتتحول إلى حياة ملينة بالنشاط والسرور والبهجة والثقة بالنفس.

2ـ يتكون لدى الإنسان اطمئنان واستقرار باطني وتظهر آثاره الحسنه اللامتناهية على وجوده الخارجي<([15]).

وعلى هذا فلرفع القلق من النفوس والتمتع بالطمأنية والراحة على الإنسان أن يعتمد على ربه العظيم ويتوكل عليه بنية صادقه وليس عليه إلاّ أن يرى آثار ذلك الحتمية.

 

كيف نحصل على التوكل؟

وبعد الذي ذكرنا ، فلعل القارء الكريم يتسائل، كيف نحصل على التوكل الحقيقي وتكون أنفسنا متيقنة بكفاية الله و معتمدة عليه ويرفع عنا القلق والاضطراب . وللإجابة نذكر هنا باختصار أهم ما يوصلنا الى درجة المتوكلين و يرفعنا الى كسب توفيق التوكل على الله ومن تلك العوامل هي:

معرفة الله

فمن لا يعرف الله حق معرفته من الطبيعي أن لا يتوكل عليه وكلما ازدادت المعرفة بالله وبقدرته وعظمته ازدادت نسبة الاعتماد عليه وأن معرفة أن كل شئ بيده وهو ارحم الراحمين بعباده و ابصر الناظرين بخلقه وهو عند حسن ظن عبده به ولا ينساه ولا يخذله، وهو على كل شئ قدير، فإن الايمان بهذا يسوق القلب الى التوكل عليه.

العمل بالواجبات وترك المحرمات

فإن الالتزام بالدين يُطهِّر القلب و يوجهه نحو الله تعالى، والذنوب هي التي تكدر العلاقة بين العبد وربه وما أن حَسُنت السريرة وصلحت الاعمال إلا ويرى الانسان نفسه قريباً من الله تعالى؛ بل متعلقاً به معتمدا عليه ومشاهداً لآثار رحمته وكفايته وعنايته.

مطالعة سيرة المتوكلين

فإن مطالعة سيرة اولئك العظماء الربانيين له تأثير في الاقتداء والتأسي خصوصاً بعد لمس النتيجة و مشاهدة حالات الفرج من الصعوبات  التي مرّوا بها وفي نفس الوقت مشاهدة قوة أنفسهم وصلابة روحهم حين الشدائد. وسيرة الانبياء والأئمة كلها قدوة للناس في اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه فلم يكن لليأس والقلق عندهم معنى. 

 

نماذج من تأثير الايمان بالله والتوكل عليه في استقرار النفس

و القرآن الكريم مليء بنماذج من المتوكلين وبيان دور التوكل على الله في استقرار انفسهم وهدوئها، وإن قراءة القرآن و الاطلاع على سيرة هؤلاء المتوكلين، كفيل بزرع روح الثقة والطمأنينة في النفس. ومن أمثلة ذلك رسول الله ص حينما خرج متخفياً من مكة الى المدينة والقوم قد تبعوه وهم يبحثون عنه ليقتلوه وهو في الغار وقد أقتربوا منه وإن الذي معه قد غمره الخوف والقلق حتى بلغ به مبلغ الحزن والألم وهذا حال الكثيرين الذين يمرون بمثل هذا الظرف، ولكن رسول الله الذي يمر بنفس الظرف، والخطر يهدده أكثر من غيره فهو المطلوب لهم، يخاطبه بهدوء وطمأنينة لا تحزن  ولا تهتم فإن الله معنا، فياله من قلب مطمئن لا يقلقه أكبر خطر. وليس ذلك الا بالإعتماد على الله تعالى والاعتقاد بوجوده ورعايته. وهناك نموذج آخر في نفس هذه الحادثة وهو ابن عمه الذي قد نام في فراشه في مكة و في كل لحظة يتوقع هجوم القوم على الدار بسيوفهم وكان يترقب قدومهم ولكن قلب أمير المؤمنين (ع) أهدأ ما يكون وفي رواية أنه نام نومة لا مثيل لها في هدوئها . وكل هذه الطمئنية والسكينة العجيبة هي من التوكل على الله والاعتماد عليه. وبالفعل فقد حفظ اللهُ نبيه وحفظ وصيه وأنزل سكينته على رسوله وأيده بجنود لم يروها وجعل كلمته هي العليا وكلمة أعدائه هي السُفلى.

 

 

[1] -  نعیمه عبد الفتاح ناصف، موقع الألوكه، رقم المقال341. وغبره من المصادر الكثيرة في المجال الطبي.

[2] - طه، 124

[3] - مجموعة من العلماء، روان شناسي نظري، ص135.

[4] - الدكتور عدنان شريف، من علم النفس القرآني، ص67.

([5]) آل عمران: 175.

[6] - الانفال، 17.

[7] - يونس، 71

[8]-  الشیخ الطوسى ، التبيان في تفسير القرآن، ج5،ص410.

([9]) الطلاق: 3.

[10] - يونس، 62- 64

([11]) الرعد: 28.

 ([12])آل عمران: 175.

([13]) النحل: 99.

([14]) محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن: ج13 ص52، مع التصرف اليسير.

([15]) ويليام جيمز، دين و روان، ص206، مع الترجمة.