عالمية الخطاب القرآني بين التنظير والتطبيق


م. بتول ناجي هادي الجنابي

عادة ما يحدث خلط بين الأوراق في كل مشروع فكري ، أريد له تنظيم المجتمع بعد إخضاعه لجملة قوانين وضوابط ، ما أن يطبقها كما هي ، حتى يُكتب له الأمن والسلام والاستقرار والسعادة التي أرادها الخالق تبارك وتعالى لمخلوقاته ، بعد أن أوجدهم من العدم واستعمرهم في الأرض ، وهم ينعمون بنعمة العقل التي أنعم بها عليهم ليتميزوا بها عن سائر مخلوقاته .

والاسلام ككل مشروع فكري ، مسه شيء ملحوظ من هذا الخلط الذي كان سوء تطبيق أفراده لقوانينه ، أهم وأبرز سبب يكمن وراء ذلك ، كما لا يخفى على أصحاب الحجى .

من هنا وجدت من المناسب جدا أن يتأمل القارئ الكريم معي – شريطة أن يكون منصفاً- أسباب هذا الخلط الواضح والمدمر ، فأقول :

 إن القوانين السماوية التي أنزلها الشارع المقدس ضمن رسالاته السماوية في كل زمان ومكان ، حتى ختمت برسالة الخاتم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، ومعجزته الباقية الى قيام يوم الساعة وهي (القرآن الكريم) ، قد أُسيءَ فهمها ، وهذا التقصير في الفهم والتطبيق ، ليس بسبب التشريع مطلقا ، لأن المشرع حكيم يضع الأمور في عين أماكنها الصحيحة ، وإنما هو بسبب أفراد المجتمع بلا أدنى شك ، ولعلك تتساءل كيف يكون ذلك ؟ فيأتيك الجواب : من خلال فهمهم وتطبيقهم ما فهموا بعيدا عن أصل ما وُضع له ذلك التشريع . ولعل انتشار الظلم والجور والقتل والفساد وسائر أنواع الانحرافات التي يعيشها الناس ، والفوضى العارمة التي تعم مرافق الحياة جميعها ، خير دليل على التطبيق الخاطئ ، الذي ابتعد عن كل ما نظَّر له الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ، بل وطبقوه وأقروه أيضاً ، من خلال ما وصلنا من سيرتهم العطرة ، التي كانت خير منهجٍ ومنهل يغترف منه كل ظمآن للهناء والاستقراء والفلاح . فهم الشموس التي تضيء لأهل الأرض ، كما تضيء النجوم لأهل السماء .

ولما كان الخطاب اصطلاحا فلسفيا ، دل ذلك على أنه منهاج في التفكير والتصور وفي التعبير عما يجول في الخاطر من أفكار وتصورات ، لذلك تعددت أنواع الخطاب وانمازت بميزات انفرد بها كل نوع عن غيره. والذي يهمنا هنا هو الخطاب الديني ، الذي لا يعني أسلوب تبليغ وحسب ، بل نجده يمثل طريقة للتعبير من أجل إقناع الآخر ، وعندها يكون وعاءً معبراً عن العقيدة والمذهب والفكر والروح والوجود . كي يخرج المجتمعات من الفوضى التي هي فيها ، الى معانٍ أسمى من الرقي والاستقرار والحرية ، وإلى هذا المعنى تنصرف الأذهان عند الحديث عن الخطاب الإسلامي ، بعدِّه الوسيلة التي يُخاطِب بها المسلمون العالم ، والمنهاج الذي يصوغون من خلاله أفكارهم وآراءهم ومواقفهم التي يريدون إيصالها إلى الجميع . فيعكسون الصورة الصحيحة والمشرقة والناصعة للإسلام ، من خلال حسن سلوكهم وكلامهم وتعاملهم مع الآخر ، وبحسب المواقف ، منطلقين من قوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾النحل: 125 ، إذ تجسد الحث والأمر الى الدعوة الى سبيل الله - وهو أسمى هدف وأنبل غاية – بصيغة فعل الامر : (ادعُ) ، وهو أمر حقيقي من جهة عليا (وهي الذات المقدسة) ، الى جهة دنيا (وهم البشر) ، تلزمها وتوجب عليها التنفيذ والخضوع ، ولكن بأي طريقة ؟ فيكون الرد الإلهي : بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي هذا المعنى نتلمس معياراً راقياً من معايير قوة وبراعة الخطاب الإسلامي ، فتكون بحسنها مفهومة ومؤثرة ومقنعة ، يرغب بها المخاطب ، ثم يأتي جواب عدم الاقناع ، بعد طول جدال ونقاش واعتراض ، وهو ديدن المجتمعات أمام كل حركة اصلاحية  ، ليعطف بواو العطف التي تدل على التبعية والتراخي ، فيقول في ذيل الآية : ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ، فالمتأمل لسياق هذه الآية الكريمة ، يجد اعجازاً في النظم والصياغة ، وتدرجاً في مراحل الخطاب ، من الحكمة في بداية الحوار واختيار ما يقنع ، ثم الوعظ والارشاد والنصح بلطف ولين وأسلوب حسن ، ثم المجادلة بالحسنى ، وفي كل ذلك الخطاب الإسلامي المتدرج ، تجد ما يقنع ويؤثر ، فتصل رسالة الخاطب الى المخاطَب ، لتؤثر به ، فيحدث الخطاب حينها التغيير المنشود في المجتمعات.

إن من الحكمة والمنطق أن تكون هناك رسالة تتسم بالوضوح والاقناع والحجة فتؤثر في المخاطب ، وهو غاية ما ينشده الخاطب ، فكيف إذا كانت تلك الرسالة ، رسالة سماوية ! لذا فقد اتسم الخطاب الاسلامي بكل مقومات النجاح والتأثير والعالمية ، لأن الحق تبارك وتعالى يقول في محكم آياته : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)الأعراف : 158،  وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)سبأ :28 ، وهنا تتجسد عالمية الرسالة ، إذ أنه (صلى الله عليه وآله) مرسل من الخالق عز وجل الى جميع الموجودات ، ولم يخاطب مجتمعاً دون غيره ، كما في الرسالات السماوية السابقة ، إذاً هو للجميع بلا استثناء ، وأما نوع الرسالة وفحواها ، فهي دعوة لتوحيده سبحانه وطاعته المطلقة من خلال فعل ما أمر ، وترك ما نهى ، وفي ذلك غاية الصلاح والسعادة التي يريدها الله تعالى لمخلوقاته ، كي تتفرغ للعبادة : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)الذاريات : 56 ، ويتجسد معنى العبادة هنا من خلال العبودية والتسليم والانقياد والطاعة له سبحانه دون غيره . فهو تعالى يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم ، لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج ، و تيههم في أودية الغي والغفلة ، كما يقول السيد الطباطبائي في ميزانه وغيره من العلماء والمفسرين ، لأن الحكمة والعقل يقضيان بالارتقاء بالإنسان لا استعباده وهدر كرامته ومساواته بالحيوان ، لذلك اقتضت حكمة الخالق أن تنعقد طبيعة خلق الإنسان على عقل وغريزة ، فمتى ما غلب عقله على غريزته فاق الملائكة ، ومتى ما غلبت الغريزة صار كالأنعام بل أضل سبيلا. وهنا يتبين الاختبار ونجاح الانسان في نهايته ، لتلوح في الأفق الجائزة ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)الزلزلة : 7-8 ، وفي ذلك يتجسد عدل الله سبحانه في تحقيق ما وعد به عباده ، إذ قال : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)التوبة : 105 ، وقوله : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)الانشقاق : 6 ، لذلك دعانا الى التنافس قائلا : (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)المطففين :  26 .

ويبدو جلياً أن أفضل نظام تسير على وفقه المجتمعات والحياة الانسانية عموماً ، ويصلح لها ويصلحها بكل مكان وزمان ، هو الشريعة الاسلامية ، لأنها خاتمة الديانات والرسالات السماوية ، وعادةً ما تكون خاتمة الشيء نهايته وكماله وتمامه ، كما قال الحق سبحانه في تنصيب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيعة الغدير : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)المائدة : 3 ، وفي ذلك إكمال وإتمام ورضى ، وبهذا الدين الخاتم والتنصيب الإلهي ، تمت شريعة السماء ، لأنه قال في مورد آخر : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)المائدة : 67، فبدا في التنصيب إكمال الرسالة ، وبدونه لا تبليغ ولا دين ولا إسلام!!

لقد كان في إنزال هذا الدستور الخالد ، وهذا الدين الكامل والخاتم ،  إخراج للناس من الظلمات الى النور ، وهذا ما تحقق فعلا في الجزيرة العربية وغيرها من الأمم ، خلال مدة قصيرة – ما يقرب من مئة عام – إذ وصل الى الصين شرقاً والأندلس غرباً ، طوال اكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ، ليكون مصدراً لهداية وإرشاد المسلمين منذ نزوله حتى اليوم. وهذه حقيقة جلية واضحة كوضوح الشمس ، لا ينكرها أحد ، وهو ما ننعم به حتى الآن .  فهو بحق دليل آخر على عالمية الإسلام وخلوده .

 ولعل من أسباب عالمية هذا الدين أيضاً ، أنه جاء متنوعاً يخاطب شرائح مختلفة ليوصل إليها رسالته ، فكان موجهاً تارة للأنبياء ، كقوله سبحانه في شأن نبي الله موسى (عليه السلام) : ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾طه : 11- 14 ، وقوله سبحانه بشأن النبي عيسى (عليه السلام) : ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾المائدة: 116 ، وقوله سبحانه في شأن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾الأحزاب : 45- 46 ، وغيرها من الآيات المباركة النازلة بحق الأنبياء الآخرين (عليهم السلام) .

 وأخرى للمؤمنين ، كقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأمْرِ مِنْكُمْ﴾النساء: 59 . وثالثة للناس ، كقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾البقرة: 2 ، ورابعة لإبليس ، في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ* قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)الأعراف : 11 – 18 ، وخامسة مع الملائكة إذ قال سبحانه : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ *وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) البقرة: 30- 33 ، وغير ذلك ، فتنوعت بذلك اساليب الخطاب ومفردات الكلام ، لتتواشج مع مستويات المتلقين وثقافاتهم المختلفة ، فيتحقق حينها التأثير والتواصل ، بأبلغ صورة.  

وفي جانب آخر ، نجد بعض الناعقين ينعقون اليوم ، وتعلو صيحاتهم منادية بعدم الحاجة الى التشريع ، وأن العالم اليوم عبارة عن قرية صغيرة ، يستطيع أفراده الحصول على كل ما يريدون ، بسبب التقنيات الحديثة وما جاء به العالم الرقمي ، الذي صنع المعجزات بضغطة زر بسيطة وسهلة ، فيحضر لك كل ما تطلب وأنت جالس وراء الأجهزة الإلكترونية المتطورة ، التي باتت وسائل لا غنى لنا عنها اليوم ، في كل مجالات الحياة المختلفة : العلمية ، الاقتصادية ، السياسية ، الدينية ، وغيرها ، وقد تنطلي هذه الصرخات على بعض العقول الساذجة بادي الرأي فتؤمن بصحتها ، ولكن العاقل اللبيب الممعن النظر فيما يجري حوله ، يجد أن كل الأنظمة والقوانين والنظريات التي جاء بها البشر ، سمتها النقص والعجز وعدم الشمول ، وخير ما يسند ذلك ، أن تأتي نظرية فتدحض سابقتها ، أو أن القوانين عاجزة عن تنظيم المجتمع ، وجعل الفرد يعيش بهناء واستقرار ، بدليل أننا نجد كثرة حالات الانتحار والزنا واللواط والقتل والفساد والظلم ، منتشرةً في المجتمعات التي تنكر التشريع الاسلامي ، وفي ذلك خير دليل على دقة وحكمة المشرع لهذا الدين بما يناسب مخلوقاته ، فهو الخالق الذي يعلم السر وأخفى ، وهو البصير الذي أحاط بكل شيء علماً ، فجاءت تشريعاته غاية في إحكام الصنعة . لذلك نجد بعض المجتمعات التي تسعى لتطبيق ما جاء في هذا الدين السمح قدر استطاعتها ، تنعم بالسعادة والإبداع والسكينة ، مجتمعاتٌ توكلت على الله وفهمت ما أراده فطبقت ، فإذا بها تحرز نتائج ما سعت اليه ، وبهذا تكون مؤثرة في نفسها وفي غيرها ، لتعكس أخلاق وأهداف ومبادئ الإسلام الى الآخر ، من خلال سلوكيات انتهجتها على وفق ما أراد هذا الدين الحنيف ، فكان خطابهم مع الآخر ومعاملاتهم تجاهه ، يبعثان على الفخر والسرور ، فأوصلوا بذلك رسالة تحكي رقي هذا الدين العظيم ، لذلك ورد عن المعصومين (عليهم السلام) : (كونوا لنا دعاة صامتين) ، و(كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شيناً) ، فالإسلام لا يصل بالخشونة والقتل والإرهاب وسفك الدماء وترويع الآخرين ، وهو ما نعاني منه اليوم من بعض المنحرفين عقائدياً كالدواعش وغيرهم ، ممن يرفعون راية الاسلام ولكنهم يسيئون تطبيق ما جاء به ، بل يصل بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى ، وغير ذلك من أساليب اللين والعطف والرقة واحترام الآخر ، لتتجسد بذلك معاني الاسلام خير تجسيد . ولنا في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والائمة الأطهار(عليهم السلام) من بعده ، وهم يعاملون اليهود والنصارى وغيرهم معاملة حسنة حتى وإن خالفوهم بالدين ، فكانت تعطى لهم الرواتب ، وتحفظ دماؤهم وأموالهم وأعراضهم ، وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) ، وصية واضحة عندما أخبره عن الناس بأنهم : (صنفان : إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) ، ليرسم طريقا معبداً في التعامل مع الآخر ، إما لأنه إنسان أو لأنه مسلم ، فلا يسلبه حقه ، ولا يجور عليه ، وهي طريقة رفيعة الشأن في إبراز تعاليم الدين الإسلامي السمحاء ، التي تصدح آناء الليل وأطراف النهار بحفظ حقوق الإنسان ، وصون كرامته وماء وجهه ، لأنه مكرَّمٌ عند الله تعالى ، إذ خلق الكون والموجودات الأخرى لخدمته وإسعاده ، بعد أن كرَّمه بنعمة العقل ليعمر الأرض وينشر السلام ، وتسعد البشرية بما أراده الله تعالى لها .

تبقى عالمية الرسالة السماوية ، عالمية الإسلام ، المتجسدة بقدسية وعظمة الخطاب الإلهي ، باقية مستمرة خالدة أبد الدهر ، لأن رعاية الله تحيطها من كل جانب ، وهذه المعجزة الخالدة التي جاء بها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، عالمية أيضاً ، لأنه كتاب تشريعي سماوي ضم كل القوانين والتعليمات التي تكتب للأمم والشعوب والمجتمعات الحياة الرغيدة ، وتكفل استقرارها وسعادتها. وهو محفوظ ما بين الدفتين ، قال تعالى :  (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)الحجر : 9. ولئن استدعت حال الأمة قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرسل يتيم آل أبي طالب الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله) هادياً ومبشراً ونذيراً ورحمة للأمة ، فحال الأمة اليوم يستدعي من كل شريف غيور على دينه ومجتمعه ومبادئه ، أن يسعى جهد إمكانه لنشر هذا الكتاب الحكيم ، تنظيراً وتطبيقاً ، من خلال حفظه والعمل بما جاء به ، لينفع به غيره ، ولينهل من فيوضاته وعطائه الدائم الذي لا انقطاع له ولا زوال ، لأن التفكك والضياع والكوارث التي عصفت وتعصف بالأمة من كل حدب وصوب ، لا تنجلي ولا تنكشف ، ما لم تبث الروح في القرآن الكريم من جديد ، ولا يكون مجرد كتاب مقدس نحتفظ به للتبرك ، بل لا بد من إحيائه من جديد من خلال العمل ، وترجمة قواعده ونظمه على أرض الواقع ، فيتحقق للناس ما جهدوا فيه ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)النجم : 39 ، وهذا ما لا يتحقق إلا بالإرادات الجادة والعازمة على التغيير والعودة للقرآن الكريم ، والابتعاد عن التنظير ولقلقة اللسان ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)الرعد : 11. والله المستعان وهو ولي التوفيق .