مفارقة تفسيرية بين عليّ (عليه السلام) وأبي هُريرة


د. عمَّار حسن الخزاعي


 

حازَ الإمامُ عليّ (عليه السلام) على قصبِ السبقِ في تفسير القرآن الكريم وبيانه، وكان مرجعًا في جميع العلوم وخصوصًا القرآنية منها، وقد خلَّف إرثاً خصبًا في مجال البحث القرآني، وكيف لا يكون كذلك وهو ربيبُ الرسالة وقرينُ النبوة، بحيث يقول عن نفسه واصفًا قربه القريب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر)).

ومن هنا كان أميرُ المؤمنين علي (عليه السلام) المنبعَ الصافي لفهم القرآن الكريم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه تلميذه وربيبه وخليفته في أمته، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعدُّه لحفظ القرآن وتفسيره وبيانه؛ ليكون المرجع بعده، وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك بقوله: ((إنِّي لأعرف ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وما حرف نزل إلّا وأنا أعرف فيمن أُنزل، وفي أيِّ يوم، وأيّ موضع أُنزل، أما تقرؤون: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأولى  صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ واللَّه هي عندي، وَرِثتها من حبيبي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، واللَّه أنا الذي أَنزل اللَّه فِيَّ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ فإنّا كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرنا بالوحي فأعيَه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: مَاذا قَالَ آنِفًا))وقال (عليه السلام): ((ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها)).

ولقد أثبتت الأيام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) كانت أُذنه واعية بخلاف غيره، ولذلك كثُرت المفارقات التفسيرية بينه وبين غيره ممَّن لم تعِ آذانهم خطاب ربِّ  العالمين، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ إذ فسَّرها أبو هُريرة بما نصُّه: ((كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْءَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَجَمَعَ مُوسَى فِي أَثَرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي، حَجَرُ، ثَوْبِي، حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْءَةِ مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ، مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدَ مَا نَظَرَ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ، إِنَّهُ نَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى بِالْحَجَرِ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ)).
هكذا كان أبو هريرة يقدِّم شخصية النبي موسى (عليه السلام)، فهو قد أساء أيَّما إساءة لشخصِه المقدَّس، وهذا التفسير لا يقبله من يمتلك أبجديات التعقُّل فكيف بالعاقل، والمعضلة الكبرى أنَّ هذا التفسير رواه مُسلم في صحيحه، وهو بذلك من المُسلّمات الصحيحة التي لا تقبل النقاش عند من يعتقد بصحيح مُسلم النيسابوريِّ، وهذا التفسير لم يسنده أبو هريرة لنفسه، وإنَّما أسنده إلى رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه إساءة أُخرى أكبر من سابقتها.
أمَّا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقد فسَّر هذه الآية بتفسير آخر يَنمُّ عن المعرفة الكاملة بحيثيات الخطاب القرآني وآليات تحليله، فقال في تفسيرها: ((صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونَ (عَلَيْهِمَا السَّلامُ) الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ حَسَبًا لَنَا مِنْكَ، وَأَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ، وَآذَوْهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ فَحَمَلْتُه حَتَّى مَرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكَلَّمَتِ الْمَلائِكَةُ بِمَوْتِهِ حَتَّى عَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ)) .

فالفرقُ  واضحٌ بين ما ذهبَ  إليه أبو هُريرة من الطعن في النبي موسى (عليه السلام)، وكذلك في النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر نِسبة تفسيره إليه وما ذهب إليه أميرُ المؤمنين(عليه السلام) من بيانٍ يستقيم مع السياق العامِّ لقدسية الأنبياء وروح القرآن. وممَّا سبق فإنَّه من الواجب تَتبُّع تفسير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للقرآن الكريم، والبحث عن الآثار الصحيحة التي وردت عنه وجعلها الفيصل فيما ورد عن غيره، من أجل تقديم قراءة واعية للخطاب القرآني، نابعة من مصدر موثوق الارتباط بالمعين الرسالي الصَّافي .