سِعَةُ الذِّكرى مِن أَثَرِها


                       
   القاعدةُ العقليَّة والمنطقيَّة تقول؛ إِنَّ الإِهتمام بالحدثِ، أَيَّ حدثٍ، يتناسبُ تناسباً طرديّاً مع أَهميَّتهِ وما يتركهُ من أَثرٍ في الواقعِ التَّاريخ والمُجتمع ومسارات الإِنسانيَّة.
   هذا ينطبقُ حتَّى على قوانينِ الطَّبيعةِ، كقوانينِ الفيزياء والكيمياء وغيرِ ذَلِكَ.
   لذلكَ نُلاحظُ أَنَّ بعض قوانين الطَّبيعة، كالجاذبيَّة والنِّسبيَّة، يهتمُّ بها الإِنسان وتهتمُّ بها العلُوم أَكثر من غيرِها، لأَنَّ تأثيرها أَكبر وأَوسع وأَشمل وأَعمق من القوانين الأُخرى.
   هذهِ القاعدة تنطبقُ بشَكلٍ كبيرٍ جداً وواضح على [عاشوراء] كحدثٍ تاريخيٍّ إِنسانيٍّ، تركَ أَثراً عظيماً لا يُمكنُ التَّقليل منهُ أَو تجاهلهُ أَبداً.
   فمنذُ استشهادِ السِّبط الحُسين بن علي (ع) في كربلاء في عاشوراء عام ٦١ للهجرةِ، وما فتِئت الذِّكرى تتجدَّد في كُلِّ شبرٍ من الكُرةِ الأَرضيَّة، شعائرَ وقصائِدَ وندوات ومسيرات ومُحاضرات وإِصدارات ومسرحيَّات ومُسلسلات وأَفلام وغيرِها.
   وعيٌ وعواطف، عِبرةٌ وعَبرةٌ.
   حتَّى أَعداء الذِّكرى الذين يكرهونَها ويحقِدونَ عليها كونَها تفضحهُم وتفضحَ منهجيَّاتهم وسلوكهُم، يعجزُون عن نسيانِها أَو تناسيها لشدَّةِ التَّأثير الذي تتركهُ في المُجتمع.
   ولمعرفةِ عُمق أَهميَّة الذِّكرى وتأثيرها، يكفينا أَن نتصفَّح كُلَّ كُتب الحديث والتَّاريخ لتُدهشنا باهتمامِ رسولِ الله (ص) بها وبكُلِّ الطُّرقِ والأَساليبِ، وفي كُلِّ الأَوقاتِ.
   فالحسينُ السِّبط (ع) هو أَوَّل وآخِر مولودٍ بشَّرت بهِ السَّماء ونعتهُ لجدِّه رسولُ الله في نفسِ اللَّحظة، لحظةُ ولادتهِ.
   وهو (ع) أَوَّل وآخِر مولودٍ إِبتسمَ لولادتهِ وبكى عليهِ رسولُ الله (ص) عندما أُنبِئ بمصرعهِ في لحظةِ ولادتهِ.
   لا أُطيلُ عليكُم بهذا الصَّدد، وإِنَّما أَدعوكم فقط لقراءةِ هذا النَّصِّ التَّاريخي الذي تذكرهُ [صِحاح] القَوم فضلاً عن عشَرات المصادر الأُخرى، يقُول النَّص؛
   أَخرج أَحمد بن أَبي بكرٍ بن إِسماعيل البُوصيري في [إِتحاف الخيرةِ المهرةِ بزوائدِ المسانيدِ العشرةِ] (ج ٧ ص ٩٠) عن أُمِّ سلَمَة رضيَ الله عنها، قالت؛ كانَ النبيُّ (ص) نائماً في بيتي فجاءَ الحُسين يدرجُ، قالت؛ فقعدتُ على البابِ فأَمسكتهُ مخافةَ أَن يدخُلَ فيوقظهُ، قالت؛ ثمَّ غفِلتُ في شيءٍ فدبَّ فدخلَ فقعدَ على بطنهِ قالت؛ فسمعتُ نحيبَ رسولَ الله (ص) فجئتُ فقلتُ؛ يا رسولَ الله ما علمتَ بهِ؟! فقال {إِنَّما جاءني جبريل (ع) وهوَ على بطني قاعدٌ فقالَ لي؛ أَتُحبُّهُ؟! فقلتُ؛ نعم، قال؛ إِنَّ أُمَّتكَ ستقتلهُ، أَلا أُريكَ التُّربة التي يُقتَلُ بها؟! قال؛ فقلتُ؛ بلى، قال؛ فضربَ بجناحهِ فأَتاني هذهِ التُّربة} قالت؛ فإِذا في يدهِ تُربةً حمراءَ وهو يبكي ويقولُ؛ ليتَ شِعري مَن يقتلكَ بعدي؟! ثم قالَ؛ رواهُ عبد بن حَميد بسندٍ صحيحٍ وأَحمد بن حنبل وأَخرج الحاكِم [ج ٤ ص ٤٤٠] عن أُمِّ سلَمة أَنَّها قالت؛ إِنَّ رسولَ الله (ص) إِضطجعَ ذاتَ ليلةٍ للنَّوم فاستيقظَ وهوَ حائرٌ ثم اضطجعَ فرَقدَ ثُمَّ استيقظَ وهو حائرٌ دونَ ما رأَيتُ بهِ المرَّة الأُولى، ثمَّ اضطجعَ فاستيقظَ وفي يدهِ تربةً حمراءَ يقبِّلها فقلتُ؛ ما هذهِ التُّربةَ يا رسولَ الله؟! قال؛ أَخبرني جبريلُ (ع) أَنَّ هذا [الحُسين] يُقتلُ بأَرضِ العراق، فقلتُ لجبريلَ؛ أَرني تُربةَ الأَرضِ التي يُقتلُ بها، فهذهِ تُربتُها. 
   قال الحاكم؛ هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ الشَّيخَينِ ولم يُخرِجاهُ، وقالَ الذَّهبي في التَّلخيصِ؛ مرَّ هذا على شرطِ البُخاري ومُسلم.
   فلماذا كُلَّ هذا الإِهتمامِ الذي أَولتهُ السَّماء قبلَ الأَرضِ بقصَّة كربلاء قبلَ وقوعِها بأَكثر مِن نصفِ قرنٍ؟! ولماذا كُلَّ هذا التَّذكيرِ السَّماويِّ قبلَ التَّذكيرِ الأَرضيِّ بقصَّةٍ مازال صاحبِها رضيعٌ؟!.
   أَلا يُشيرُ ذلكَ إِلى عِظَمِ أَهميَّتها وتأثيرها في مسيرة الأُمَّة ومسار الإِنسانيَّة؟!.
   ومنذُ ذلكَ اليَوم، يوم مولدهِ المُبارك، وإِلى هذهِ السَّاعة، لم تفتُر ذكرى شهيدُ كربلاء وكأَنَّها تتجدَّدُ في كلِّ يومٍ.