مفارقة تفسيرية بين علي (عليه السلام) وكعب الأحبار:


د. عمَّار حسن الخزاعي


نال علي بن أبي طالب (عليه السلام) المرتبة السامية في البحث التفسيري للقرآن الكريم، فكان المعين الذي لا ينضب لكلِّ شارب من عذب فراته، ونظرة واحدة لتراثه التفسيري تجعلك تحكم حكم اليقين بأنَّ ما يصدر عنه لا يمكن أن يكون من اجتهادات شخص تعلَّم في مدارس الحياة الدنيا، وإنَّما تجزم قاطعا بأنَّه (صلوات الله عليه) لا يصدر إلَّا من علم إلهي قد ألهمه إيَّاه ربَّه تعالى بما قدَّم من عمل صالح، ونحن في هذه العجالة نحاول أن نبرز جوانب تفرُّده بتفسير القرآن الكريم، وذلك بمقارنة نتاجه الفكري مع نتاج غيره، حتَّى يميز العاقل بين ما هو علم لدنيٍّ راسخ، وما هو زبد تذروه الرياح والأمواج لا يثبت أمام أبسط مناقشة علمية . ومن هنا فقد حدثت مفارقات شاسعة بينه (صلوات الله عليه) وبين غيره ممَّن تصدَّوا لتفسير القرآن الكريم، ومن تلك المفارقات التفسيريَّة ما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)﴾ [سورة: ص] .

قال ابن عبّاس في معرض تفسير هذه الآية: ((سألت علي بن أبي طالب [عليه السلام] عن هذه الآية فقال: ما بلغك في هذا يا ابن عبّاس؟ فقلت له: سمعت كعب الأحبار يقول: إنَّ سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر إليها حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ، فقال لمَّا فاتته الصلاة: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون، وبقول: أربعة عشر، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنَّه ظلم الخيل بقتلها، فقال علي بن أبي طالب [عليه السلام]: كذب كعب الأحبار، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم، لأنَّه أراد جهاد عدو حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس: رُدُّوها عَلَيَّ. يعني الشمس، فردوها عليه حتّى صلّى العصر في وقتها، فإنَّ أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ولا يرضون بالظلم، لأنهم معصومون مطهّرون، فذلك قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل))([1]) .

ومن العجيب أنَّ الماتريدي (ت: 333هـ) ينقل أنَّ عامة أهل التأويل تذهب مع رأي كعب الأحبار، وذلك في قوله: ((قال عامة أهل التأويل: أي: جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها -والسوق: هو جماعة الساق- لما شغلته عن ذكر ربِّه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها، فجعل يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عمّا شغل عن ذكر ربَّه))([2]) .

فكعب الأحبار يجعل من النبي سُليمان ظالمًا يقتل الأفراس من دون حقٍّ سوى أنَّه تأخَّر عن صلاته منشغلًا بها، ومع هذا يتَّبعه عامة أهل التأويل، بينما أمير المؤمنين (عليه السلام) جعل من (الضمير الهاء) في قوله: ﴿رُدُّوها عَلَيَّ﴾ عائدًا على الشمس وليس على الأفراس كما ذهب كعب الأحبار، وكذلك بيَّن (صلوات الله عليه) أنَّ سُليمان (عليه السلام) لم يكن منشغلاً بالتنزه مع الخيل، وإنَّما كان مشغولاً بالخيل يعدُّها للجهاد في سبيل الله تعالى، ومن هنا فقد أثبت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) براءة النّبي سليمان (عليه السلام) من الظلم ومن قتل الأفراس، وكذلك أثبت له فضيلة ردِّ الشمس إليه بأمر الله تعالى من أجل أن يُصلِّي صلاته في وقتها .

وممَّا سبق يثبت العمق التفسيري الذي تميَّز به أمير المؤمنين (عليه السلام) عن غيره من الصحابة، ولذا فإنَّنا نشدِّد على أن يكون تراثه هو الفيصل في تفسير القرآن الكريم، لا أن يكون تراث الكاذبين أمثال كعب وغيره الفيصل بالنظر، ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35] . ولكن هي السياسة التي تحاول إقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام) من كلِّ شيء، حتَّى من أروقة العلم والدِّراسة، وهذه إحدى ظلاماته (عليه السلام) الدائمة . إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ...


([1])الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427هـ)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ - 2002 م: 8/200

([2])تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة)، محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفى: 333هـ)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1426 هـ - 2005 م: 8/624 – 625 .